انهيار الاقتصاد البريطاني من الإمبراطورية إلى أزمة الديون

"إن لم يكن العرب قد عرفوا فن المقالة بمفهومه الحديث والمعاصر، فقد عرفوه كقالب لا يختلف عن قالب المقالة الحديث عبر أسلوب الرسالة."
بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس
بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تقف اليوم تحت ظلال أزمة قد تسقط أعمدتها الاقتصادية.
الديون تتضخم، والأثرياء يغادرون، والاستثمار يتبخر.
الحكومة عاجزة عن إصدار ميزانية واحدة تقنع الأسواق، فما الذي يحدث لأحد أقدم اقتصاد في العالم؟ وكيف تحوّل الجنيه الإسترليني إلى عملة مضطربة يخشاها المستثمرون؟
وهل سنشهد تكرارًا لواحد من أسوأ كوابيس بريطانيا – سيناريو 1976؟
من الإمبراطورية الاقتصادية إلى جبل الديون
كانت بريطانيا ذات يوم قلب النظام المالي العالمي.
هنا في لندن كانت تُحدد أسعار الذهب والفائدة، وهنا كانت تُدار أكبر شركة مصرفية وتجارية على الكوكب.
الجنيه الإسترليني كان عملة احتياطية دولية، ومدينة لندن كانت رئة العالم الاقتصادية لعقود طويلة.
لكن ذلك المجد بدأ يتآكل.
اليوم يقف الاقتصاد البريطاني أمام أكبر مديونية في تاريخه الحديث:
-
3.9 تريليون دولار هو الدين العام البريطاني.
-
مع إضافة ديون الشركات والأسر يصل الرقم إلى 8.6 تريليون دولار من الالتزامات المالية.
هذا يعني أن بريطانيا تراكم الديون بمعدل 51 مليون دولار كل ساعة — رقم مرعب لدولة كانت تُعرف بالحكمة المالية والانضباط الاقتصادي.
--------------
الحكومة لا زالت تؤجل الميزانية.
عوائد السندات البريطانية اليوم وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ 27 عامًا.
كل سند جديد تصدره بريطانيا يكلفها فوائد أعلى، وثقة أقل، وهوامش خطر أكبر.
إنه أشبه بمحاولة شراء الثقة باستخدام بطاقة ائتمان تكاد تنفجر.
الشركات تنهار والأثرياء يهربون
الأزمة في بريطانيا ليست محصورة في البيانات الحكومية أو البرلمان، بل تنعكس يومًا بعد يوم في الحياة اليومية:
-
منذ بداية هذا العام فقط، خسر 250 ألف بريطاني وظائفهم.
-
في نفس الفترة أُغلقت 14,500 شركة أغلبها صغيرة ومتوسطة.
القطاعات الأكثر تضررًا:
-
السياحة
-
الضيافة
-
التجزئة
-
الخدمات المالية
حتى لندن التي طالما وُصفت بأنها "عاصمة المال في أوروبا" بدأت تفقد هذه المكانة تدريجيًا بعد أن تحولت من وجهة استثمار إلى بيئة يغيب عنها الاستقرار.
نزيف في قمة الهرم المالي
في السنوات الأخيرة غادر بريطانيا أكثر من 138,000 مليونير — أي ما يقرب من خمس الأثرياء.
هذه الهجرة لم تكن مجرد تحايل ضريبي، بل كانت تصويتًا صامتًا ضد مستقبل الاقتصاد البريطاني.
أسباب مغادرة أصحاب الملايين:
-
غياب خطة اقتصادية واضحة.
-
تغيّر الحكومات والوزراء باستمرار.
-
تقلبات الضرائب واللوائح.
-
"بريكست" غير محسوم.
-
تضخم ينهك الثروات والفرص.
من 2008 إلى البريكست: تراكم الأخطاء
-
بعد أزمة 2008 اختارت بريطانيا تقشفًا قاسيًا دمّر البنية الإنتاجية.
-
في 2016 جاء استفتاء البريكست ليسقط ركيزة العلاقات التجارية مع أوروبا.
-
لم تدخل بريطانيا أي تحالف اقتصادي حقيقي مع أمريكا أو الصين.
هكذا وجدت نفسها في فراغ تجاري.
غياب السياسة الاقتصادية
لا توجد خطة واضحة.
الوزراء يتغيرون، السياسات تتبدل، والمستثمرون يرون في ذلك ضعفًا هيكليًا في الرؤية البريطانية.
محاولات فاشلة:
-
توقيع اتفاقات مع الصين، إفريقيا، أو آسيا.
-
استثمارات صناعية جديدة.
بينما يزداد الاعتماد على قطاع الخدمات، تنهار الصناعة وتتهاوى قاعدة الإنتاج.
سيناريو 1976: هل يتكرر؟
اليوم تتشابه المؤشرات:
-
تضخم مرتفع.
-
ديون متراكمة.
-
سندات بلا ثقة.
-
عجز في الميزانية.
-
غياب خطة إنقاذ.
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
الفرصة تضيق
يرى بعض الخبراء أن بريطانيا أكثر مرونة من فرنسا بفضل:
-
نظام ضرائبي أكثر جاذبية.
-
قوانين استثمارية أكثر انفتاحًا.
-
قطاع مالي عالمي ضخم.
لكن هذا التفوق لن يدوم إن لم تتحرك بريطانيا بسرعة وتتخلى عن الخطاب السياسي لصالح خطة اقتصادية حقيقية.
الخلاصة المقالة
ما يحدث في بريطانيا ليس مجرد تباطؤ اقتصادي، بل تآكل في الثقة وفقدان للبوصلة.
في عالم تحكمه البيانات والقرارات السريعة، فإن التردد السياسي قد يكون أغلى من أي قرض أو عجز.
فهل تستعيد لندن زمام المبادرة؟
أم أننا على أبواب أزمة تاريخية جديدة قد تتجاوز سبعينيات القرن الماضي؟
تعليقات
إرسال تعليق